جهاز الإنذار لا يعمل!

كان يسير لوجهته المُعتادة، تسوقهُ اقدامه ككل مرة ذهابًا وايابًا مع نفس الطريق الذي لا هو حاول تغييره، ولا الطريق نفسه قد غُير عن طريق المصادفة أو العمد. كانت تقوده اقدامه وفقًا لعادته التي اكتسبها عقله الباطني، بحيث أنه لو أغمض عينيه، واذنيه، وكل حواسه لوجد نفسه ككل مرة عند نقطة الوصول، لكأنه لا جديد تمامًا، نفس الطريق، نفس الاحداث، نفس الوجوه.. لا شيء جديد، بل أنه لم يحدث في تاريخه قط أن حدث شيء جديد بالنسبة لحياته البائسة. وكل ما يراه الناس من حوله جديدًا، كان يراه هو، في المقابل، لا شيء لفرط قدمه. غير أن فرحته الوحيدة هي بذاكرته التي لطالما كانت تحميه من ضياع الطريق، وتضارب الأفكار، لكأن جسده الهزيل تحت رهان هذهِ الذاكرة العشوائية. 

ولكن ذاكرته تلك التي يعوّل عليها كل تفاصيل حياته، ومكوّناتها، بما في ذلك جسده، وتحركاته، توقّفت عن العمل جزئيًا اثناء سيره المُريب، منتصف طريقه المعتاد. توقّف فجاءة وهو مذهول، لكأنها المرة الأولى مُنذ أن رفع رأسه للسماء آخر مرة، ليجد كل الأفكار التي لطالما كانت تتحكم ذاكرته العشوائية في منعها، وصرفها تهجم عليه مباشرة بشكل مُتسارع، وهمجي. راح يسير إلى مالا وجهة، وكل أهدافه في تلك اللحظة تتمحور حول الهرب، حتى عودة ذاكرته تلك. كان يسلك طريقه المُعتاد من حيث لا يعلم، لكأن وجود ذاكرته او عدمها، في حقيقة الامر، لا يخلق أي فرق بالنسبة لتوجيه اقدامه نحو الطريق الصحيح. دخل مبناه الذي يقطنه مُنذ ثلاثة أعوام، متوجهًا للسلالم مباشرةً، وهو يتساءل بصدق داخلي: ما الذي حدث؟

وفجاءة وقعت عيناه على زر الإنذار، توقف بشكلٍ لا مُتوقع، وراح يتفحّص ذاك الزر المحمي داخل صندوقٍ احمر. ودون ملاحظة، كانت يداه، تتوجه نحو الزر، إلا أن طبقة من الزجاج كانت تقف فيما بينه وبين الزر القامع بجانبه، ولربما تساءل أحدهم في تلك اللحظة: ولماذا عساه يضغط زر إنذار الحريق؟ تكون الإجابة المنطقية التي يقبلها العقل والمنطق وقتها، هو أن ثمة وجود حريق في مكانٍ ما من هذه البناية. نعم، صحيح، وهذا ما دفعه فعلًا لملاحظة ذاك الزر، بل التوجه إليه مباشرة لحظة هرعه، وهروبه من أفكاره. ولكنه مع ذلك، غض النظر عن فكرة جهاز الإنذار، فما فائدة أي جهاز إن كان لا يعمل؟ حتى وإن قام بضغط الزر، حتى وإن تجمهر الجميع من حوله، وحضر الموقع رجال الإطفاء، الإسعاف، وامن الدولة حتى.. ماذا عساهم فاعلين وهو الوحيد الذي يشعر بلهيب تلك النار في داخله! هو الوحيد ولا غيره من يحترق بتلك النار.. فلطالما كانت النيران تنشط لحظات انكساره، فرحه، او أي شكلٍ من اشكال الانفعال العاطفي في داخله، لكأن مشاعره هي وقود نيرانه، ومحفزها. 

راح يمشي بعيدًا عن كل مكان، لأنه لم يعد يود الهرب بكل اشكاله الان، لأنه لحظة التقاءه بزر الإنذار ذاك، أكتشف بأن هروبه لم يكن هروبًا من أفكاره المبعثرة، ولا واقعه وحقيقة ذاته، لا، كان هروبه اغلب الوقت يكون من مشاعره، ولا غيرها، لكأنه يود العيش دون أي خوف، مجرد، هكذا دون أي شعور. ولكن حتى هربه المزعوم من مشاعره، لم يكن شيئًا يستطيع المرء الهروب منه، لا، وكيف له بأن يهرب من النار وهو يحملها في داخله أينما توجه؟ أتراه يهرب من نفسه؟ من جسده؟ او من روحه؟ لا يعلم أيهم النار قد أًوقدت فيها، او في أي منطقة من فضاءه الداخلي تضطرم النار فيها؟ لا يعلم، كما أنهُ لا يستطيع العلم الان، في اشد لحظات احتراقه، فليحترق هو، ولتحترق روحه، المهم ألا يحترق المبنى الخرساني، فجهاز انذار الحريق لا يعمل.








تعليقات

المشاركات الشائعة