حينما يُدفن الفن بين كُثبان الصحراء!



في قاموسي الخاص، لم استطع تعريف الفن..
غير ان الفن كان سلاحًا بالنسبة لي، كان الكلام الذي لا يُحكى، ولا يُبكى، كان اشياءً لا اعرف ترجمتها..
ومن حُسن حظي.. او سؤه على حدٍ سواء.. انّ الواني الزاهية، وقعت على لوحةٍ سوداء.. سوداء تمامًا !
لذلك لم يكُن هُناك تناسق بين الالوان، او حتى تشبع.. كانت صورة عكسية لـ : " خلاف الالوان المُتحدثة، واللوحة الصامته !"
ففي سِن الطفولة، اُجرمَ في حق الموهبة الفنية التي كانت تسكنني.. 
فأنا لازلت اتذكر ظهيرة ذاك اليوم، حينما خُيروني وتركوا لي حُرية الشراء.. فأشتريتُ الوانًا خشبية، وعلى هذا الحال في كل مرة اشتري الوانًا جديدة واتعرف على انواعها.. الزيتيه، المائية، الطوابع.. واشتري كراسات الرسم، والرسومات الكرتونية لتلوينها.. إلى ان وصلت للمرحلة التي اردت ان اشتري فيها لوحة قماشٍ كبيرة، ومُثبت اللوحات الخاص بالفنانين..
فتوقفت عند نقاطٍ كثيرة، او بالاصح حواجز.. غير ان المُجتمع كان احد هذه الحواجز.. ولكني تخطيتهُ وقتها لأن الموهبة هي التي كانت مُتعلقة بي.. فبداية من الاحكام الشرعية التي كُنت اسمعها من هُنا وهُناك، تتذبذب نغماتها بين طرف اذني اليُمنى، واليُسرى.. مُخترقة جوف الموهبة التي كانت تسكنني.. !
مرورًا بنظرة المُجتمع المُحيط بي.. هُناك نظرة دونية تسكنهم إتجاه الفن بجميع انواعه.. بما ذلك إحتقارهم للوحاتي خصوصًا وأني ذكر!!
وكأن الرسم لم يُخلق سوى "للإناث!" ، هذا ما كُنت اشعر بهِ وقتها.. ولكي لا اكون مُجحفًا بوصفي هذا.. كانت امي احد الداعمين لي، وغيرها ممن يدعمني في الخفاء..
ولكن العُرف الذي فُرض عليّ بنظراتهم، وكلماتهم.. كان قاسيًا جدًا !
وفي النهاية.. تركتُ -إحتراف الفن-، ولكني لم اترك الفن.. بل هو الذي لم يتركني.. فعندما اشعر بالحُزن، اجد ان الرسم هو اكثر ما يُعبر عن هذا الحُزن ويُنفس عنه..
عندمّا تتجمع تلك المشاعر في نُقطة مُعينة في نفسك، لا تعرف كيف الطريق لترجمتها سواءً بالكلمات، او بالكتابه.. كي تخرج وتُحلق بعيدًا عنك.. اجد ان الورقة والقلم.. يُترجمان هذه المشاعر لما هو افضل من الكلام.. فتتُرجم مشاعري على شكل لوحة.. 
عندمّا اشعر بالفراغ، وقلة الحيلة.. اجد ان مُخيلتي وشهيتي للرسم جدًا كبيرة فعندمّا اجد اي دفترٍ وقلم بختلاف نوعه.. ابدأ بالرسم مباشرةً.. لذلك تجد كُل ما حولي مرسومًا فيه.. دفاتر المُذكرات، الكُتب الدراسية، الصُحف اليومية، اغلقة الكُتب، المناديل، العبوات الكرتونية، حتى المُلاحظات في جوالي المحمول لم يسلم من رسوماتي التي تترجم في كُل واحدةٍ منهم، شعورًا يختلف عن الآخر..
وبعدمّا اعتزلتُ احترافَ الفن.. اكتشفت ان نصف ابناء عشيرتي موهوبون بالفطرة.. ويرسمون بالخفاء!!
وكأن الرسم عيبٌ يجرمُ صاحبه، او نقصٌ يهين الإنسان.. هأنا اراهم لا يتحدثون عن الفن، ويشجبونهُ، وينعتونه بالسخيف.. وعندمّا تُلقي نظرة على ادراجهم السرية، سترى الكثير من كراسات الرسم، والدفاتر.. التي رُسم فيها اجمل اللوحات الفنية، خيال واسع، وفن لاذع.. فهٌناك من يرسم الطبيعة والسيارات، وهُناك من يرسم الاشخاص والمُجسمات، يمزجونها بواقعهم، وبعبارة جميلة، وابياتٍ الشعر.. 
سكت، وكأنني تلصصت على احد اسرارهم!
هُناك الكثير من الموهبين، لماذا تُدفن موهبتهم بين كُثبان هذه الرمال؟

وعندما تطور الامر.. وبدأت بمشاهدة القنوات الفضائية، والمواقع الإلكترونية، وشبكات التواصل الإجتماعي.. 
اكتشفتُ ان الفن خارج حدود هذه الرمال.. جميل جدًا.. وواسع.. ومُبهر بالنسبة لي..
اعتقدت ان هذه الرمال لا تستطيع إنجاب افضل الرسامين، وحتى إن انجبتهم.. هل تستطيع إحتضانهم يا ترى حد الكِبر؟
اعتقدتُ ايضًا.. ان فننا لا يُضاهي فنونهم.. واننا لا نستطيع إنتاج لوحاتٍ كلوحاتهم.. وبمستواها العالي!
  • احُبطت .
إلى ان اتتني دعوةٌ للمشاركة في معرضٍ فني.. في البداية مررتُ على الدعوة مروُر الكِرام.. ولكن في كل ليلة قبل المنام كان طيف لوحاتي المظلومة يزورني ليجعلني اعيش بعضًا من احلام الطفولة.. الححَ علي ذلك الطيف.. إلى إن انقضت فترة تسجيل اللوحات المُشاركة.. وقبلها بثلاثِ ايامٍ فقط بدأت برسم لوحتي.. وكُنت على عجالة خوفًا من ان تنتهي فترة التسجيل، ويعود ذلك الطيف مُحبطًا.. وفي اخر يومٍ بالضبط.. سلمتُ لوحتي بكل هِمة.. ونسيت ان اضع معلوماتي قبل تسليمها.. فما كان مني الا كتابتها في مقر التسليم.. وقبلها اتصلتُ على مدير المعرض لكي اطرح عليه بعض الاسئلة التي كانت تشغل عقلي.. فما كان منه الا دعوتي بكل رحابة صدر قائلًا :
  • " زُرني في مكتبي، واخبرتي عن لوحتك وماهي رسالتها "
وما كان مني إلا تلبيت الدعوة، وعندما ذهبت تفاجئت، بل اني ذُهلت.. ومن داخلي ايضًا يئستُ قليلًا..
هُناك كمٌ مهول من اللوحات الإحترافية، التي كُنت اشاهد مثلها على التفاز، وشبكات التواصل الإجتماعي.. نعم نحن مثلهم بل ان بعض اللوحات افضل منهم بطابعها العربي، حيثُ مزجت الاصالة، والفن.. والتاريخ، والعزة.. هُناك كمية شموخ في بعض اللوحات.. الخيول المرسومة، والزخارف الإسلامية، جمال بصري لا يوُصف..
شعرتُ لوهلة بأني لستُ على ارض هذه الصحراء، التي عشتُ على ذاتها في الصغر.. هُناك من اكمل مسيرته الفنية.. وزاد من فنه..
هذا ما ترويه لوحاتهم لي، الموهبة، والدعم، والتعمق.. اشياء تصنع هذا الجمال..
شعرت وقتها.. ان لوحتي صغيرة، امام تلك اللوحات العملاقة.. حتى اني قُلت ممازحًا للمدير :
  • " وبعد هذه اللوحات، لا اظن بأن هُناك امل لعرض لوحتي في المعرض "
في الحقيقة.. من كان موهبًا بالفطرة، سيُكمل رغمًا عن الكُل.. وهذا ما احيا الذكرى القديمة، واعطاني الدافع للمشاركة في جميع المعارض الفنية.. وإكمال مسيرة الفنان الصغير الذي يسكنني..
وفي النهاية.. الفن لن يُدفن سواءً بين كُثبان الصحراء، او تحت امواج البحر..

سيبقى جمال لوحات ابناء وطني يسكن مُخيلتي، ويعيد للقلب فنهُ، وللذكرى الوانها.

تعليقات

المشاركات الشائعة