هروب عن طريق المصادفة - تجربة السفر وحيدًا


(١)


مُنذ بدايات انهياراتي النفسية، وأنا انتظر نهاية هذا الفصل الدراسي؛ للحصول على بعض العزلة في احضان اجازة منزلية اعيش فيها تفاصيلي الصغيرة بعيدًا عن عالم الالتزامات، الاعمال، والعلاقات الاجتماعية. في محاولة جديدة للوصول إلى حل اوسط يجمع فيما بيني وبين نفسي على طاولة نقاش واحدة. إلا أن الاجازة لم تكن بالهدوء الذي توقعتهُ، لربما كانت أكثر ضجيجًا عن الفصل الدراسي الذي للتو انتهى، بل إني أكاد أجزم بأنها كذلك وبمراحل عدّة ايضًا. كانت كل انهيارتي تزداد في وتيرة واحدة، وأنا اعلم بأن النهاية قادمة لا محالة ليس بالنسبة لي فقط، بل للجميع.. ولكني كُنت اقربهم لها. فأنا لم استطع ايجاد مخبأ زماني، استجمع فيه قواي التي خارت لحظات سباقي المستمر لمجاراة صخب هذهِ الحياة وتفاصيلها، لم استطع ايجاد عطل فني في اختراع الساعة، لتتوقف قليلًا، قليلًا فقط. ما كان يفصلني عن نهايتي الحتمية، هو عامل التوقيت، حيث أن اجازتي كانت في شهر رمضان! كان وجود هذا الشهر، في هذا الوقت تحديدًا من صراعي عاملًا مهمًا في بقائي، حيث أني من حيث لا احتسب شعرت بكمٍ من الروحانية، القرب، والحب لكل تلك النعم التي تناسيتُها لفرط انشغالي الدائم بتلك النعم التي احاول الحصول عليها.

منتصف شهر رمضان، وأنا اتنّقل بين تغريدات تطبيق تويتر، وقعت عيني بالمصادفة على اعلان من احد الجهات للتكفل برحلة خارجية للمشاركة في مؤتمر عالمي (في مجالي) على حساب الداعميين. قررّت التقدّم ولكن بعد فوات الاوان، حيث أن التسجيل أُغلق بعد تقديم طلبي بثلاث ساعات تقريبًا. كان شعوري وقتها يميل للجمود، كما هي الايام الخوالي تمامًا لا شيء جديد. إن ما دفعّني للحقيقة للتقدّم لهذهِ الرحلة هو في الاساس رغبتي في الخروج من عالمي هذا، وكل المتغيرات التي تنبثق منه، ظنًا مني بأن الطائرة لها القدرة على التحليق خارج هذا الكوكب، لكأنها باب حقيقي لعالم آخر! حتى وإن كان ذاك الخروج يعني الارتباط بعمل، او التزام مقيت كما هو الحال مع تسليم المشاريع، والواجبات، اولا يحدث في بعض الاحيان أن نتهرّب من حقيقة واقعنا، وكل محتوياته بالانغماس في العمل حد الإجهاد؟ ولكن ربما كان الخروج هذهِ المرة عن طريق باب مُختلف غير هذه الرحلة المكفولة. ربمّا تكون عن طريق كتاب، او شخص، او مقطع فيديو، او اي شيء آخر، من يعلم؟

وبشكل غريب، وصلتني رسالة قبول، تحثني على التواصل مع المنسق لإنهاء اجراءات السفر في اقرب وقت! واو!  ربمّا يجب عليّ إعادة النظر في هذهِ الرحلة، لربما كانت بالفعل هي الباب لخروجي من هذهِ الحالة المُشبعة بالسقم. وبعد القليل من الصعوبات، انهيت جميع الاجراءات المطلوبة، الفيزا، بطاقة دخول المعرض، والخ.. في ما يقارب الاربع ايام. وبذلك تبقى اصعب مرحلة وهي تجهيز حقيبتي لأول رحلة خارجية دون مرافقة احدهم. ما الذي يجب أخذه وما الذي يجب تركه؟ هل يجب عليّ في الاساس اصطحاب حقيبة محملة بالكثير من الذكريات في كل قطعة من محتوياتها؟ اه، لو أن بإستطاعتنا استخدام الحقيبة بشكل مختلف كأن نضع فيها كل ما يؤرقنا، يؤلمنا، ويزعحنا من مشاعر وذكريات لنسيانها حتى عودتنا، ليس عودتنا إلى الوطن، بل عودتنا لأنفسنا.

مرّت الايام، ولا شيء جديد قد تحّرك، غير أن شعوري بالاطمئنان كان يزداد نوعًا ما في ظل تغيبي التام عن كل التزماتي، جداولي، وكل ما يتعلق بكونه عبئًا على روحي المثقلة. وقبل يوم الرحلة التي كانت في ثالث ايام العيد السادس من يونيو 2019، بدأت بالشعور بأني بالفعل امام تجربة جديدة، تجربة لم أفكر في خوضها ابدًا على الامد القريب. الا أنها كانت اقرب مما اتصوّر. وهذا ما جعلني اتوتر قليلًا لحظة وصولي المطار، والتوجه للطائرة في رحلة تستغرق ستَ ساعات.


يُتبع..                                                                                                                                                                                                                  



تعليقات

المشاركات الشائعة